لم يعرف الفلسطينيون رئيساً أميركياً أكثر انحيازاً للكيان الإسرائيلي من الرئيس دونالد ترامب.
فالرئيس الـ13 للولايات المُتّحدة منذ قيام الكيان الإسرائيلي في العام 1948، مارس كل ما يدعم ويخدم ترسيخ مكانته ودوره في المنطقة، وصولاً إلى مُحاولة القضاء على القضية الفلسطينية من خلال "صفقة القرن"، بعدما أخّر إعلان موعدها، جرّاء الفشل بتشكيل حكومة إسرائيلية، ما استدعى إجراء الانتخابات العامة لـ"الكنيست" 3 مرّات خلال أقل من عامٍ واحد.
تضمّنت خطة ترامب في "صفقة القرن" بنوداً بالتهويد والضم والتطبيع، وشطب قضية حق العودة للاجئين، وإنهاء أي أُفق للدولة الفلسطينية، ووضع القدس تحت سيطرة الاحتلال والسماح بالاستيطان وتوسّعه وشرعنته.
بعد تسلّم الرئيس ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، كان اتصاله المُفاجئ بالرئيس الفلسطيني محمود عباس في 10 آذار/ مارس 2017، بعد إبلاغه بذلك قبل أيام عدّة، ودعوته خلاله للقاء في البيت الأبيض، مُكرِّراً ذلك 3 مرّات.
حصل اللقاء بتاريخ 3 أيّار/مايو 2017، وبدى فيه الرئيس الأميركي، وكأنّه سيحلُّ الصراع العربي - الإسرائيلي سريعاً، لكن الفريق المُفاوِض والدائرة الضيّقة المُقرّبة من الرئيس الأميركي، المُتمثّلة بصهره وكبير مُستشاريه جاريد كوشنير، أبلغوا لاحقاً الجانب الفلسطيني بأنّ "عليهم نسيان ما سمعوه من الرئيس ترامب عن حل الدولتين، وأنّ القدس المُوحّدة ستكون عاصمة لدولة إسرائيل، وعليهم الاعتراف بذلك".
4 لقاءات جمعت بين الرئيسين الأميركي والفلسطيني، أدرك خلالها الرئيس "أبو مازن" الانحياز التام من جانب الرئيس ترامب للكيان الإسرائيلي، وأنّ الرؤية التي يتحدّث عنها ليست إلا مشروعاً إسرائيلياً سبق أنْ قدّمه بنيامين نتنياهو ومجلس المُستوطنات في 23 أيلول/ سبتمبر 2018، لكن قوبل برفضٍ الجانب الفلسطيني.
عشيّة إعلان ترامب قراره نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، اتصل مساء يوم الأربعاء في 5 كانون الأوّل /ديسمبر 2017، بالرئيس عباس، الذي حذّره من تداعيات ومخاطر ذلك.
خرج الرئيس ترامب ليُبلغ العالم، بأنّه قبل اتخاذ قراره اتصل بالرئيس الفلسطيني، زاعماً بأنّه أبلغه مضمون القرار!
أصرَّ رئيس آخر دولة في العالم لا تزال ترزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، على قطع العلاقات مع أكبر رئيس دولة في العالم، وتجرّأ على أنْ يقول له مِراراً وتكراراً: "لا"، ورفض اللقاء به أو تلقّي أي اتصال منه.
لم يترك الرئيس ترامب أي شيء من عقوبات وقطع مُساعدات عن السلطة الفلسطينية إلا ونفّذه، مُقابل دعم لامتناهٍ للكيان الإسرائيلي في مُحاولة لمُمارسة الضغوطات على الجانب الفلسطيني، الذي أصرَّ رئيسه مُتقدّماً القيادة والشعب، على المُواجهة، في أصعب مرحلة تمر بها القضية الفلسطينية.
منذ الآن حتى 20 كانون الثاني/يناير 2021، دخول بايدن إلى البيت الأبيض، لا يعرف العالم بماذا سيغامر الرئيس ترامب، وما هي الهدايا المجانية الجديدة التي سيقدّمها للكيان الإسرائيلي، والقرارات التي سيتّخذها ضد القضية الفلسطينية؟
أيضاً، على ماذا سيُقدِم نتنياهو لاستكمال خطوات كان قد قام بها لترسيخ يهودية الكيان الإسرائيلي، وفرض أمر واقع جديد أمام إدارة بايدن، لجهة إجراءات تهويد القدس، وبناء المزيد من الوحدات الاستيطانية.
يحمل بايدن إرث سلطة ثقيل يتركه ترامب بكرات نارية مُتفجّرة، بحيث سيكون أمام خيارين: إما التفرّغ لمُحاكمة ترامب أو تركه خلف ظهره، والعمل على تضميد الجراح البليغة، جرّاء مُغامرات وبلطجية ترامب، الذي مارس شريعة الغاب بدلاً من القانون الدولي والشرعية الدولية، ففرض العهد الظلامي على المنطقة، واستخفَّ بالقيم العالمية وحقوق الإنسان والديمقراطية.
لقد تذوّق بايدن لذّة طعم الربح بعدما ذاق علقم طعم الخسارة، وهو لذلك عاد إلى إعطاء فرصة للجميع للعمل معاً.
يُدرِك الفلسطينيون أنّ أمن "إسرائيل" أساسي، سواء بالنسبة إلى ترامب أو بايدن، لكن الرئيس الأميركي الجديد يُؤمّن بحل الدولتين وضد التوسّع الاستيطاني.
بايدن الخبير المُخضرم في الحياة السياسية العامة، صاحب أكبر خبرة في مجال الخدمة العامة، على مدى عقود من الزمن و3 مُحاولات للوصول إلى البيت الأبيض وشغله منصب نائب الرئيس باراك أوباما لمُدّة 8 سنوات (2009-2017) مكّنه من معرفة التفاصيل كافة المُتعلّقة بالصراع العربي - الإسرائيلي وقضايا المنطقة، وليس بحاجة لأنْ يطلع مُجدّداً على نقطة الاستقرار في الشرق الأوسط والعالم، المُتمثّلة بحل عادل للقضية الفلسطينية.
يأمل الفلسطينيون عودة الدفء إلى العلاقات مع الجانب الأميركي المُجمّدة منذ 3 سنوات، وأنْ يتم تكريس إقامة الدولة الفلسطينية على أرض الواقع، وفق حل الدولتين، ووقف الاستيطان.
"خارطة الطريق" الفلسطينية
ماذا عن "خارطة الطريق" الفلسطينية؟
سيكون التركيز الفلسطيني مُنصبٌّ على:
* داخلياً: تمتين وحدة الصف والمُضي قُدُماً بإنجاز المصالحة، وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني.
* عربياً: العمل على إعادة اللُحمة العربية، باعتبار القضية الفلسطينية أولوية والتمسّك بقرارات القمم العربية، في مُقدّمها "مُبادرة السلام العربية"، التي أُعلِنَ عنها خلال "القمة العربية" الـ14 التي عُقِدَتْ في بيروت بين 27-28 آذار/مارس 2002، بتبنّي المُبادرة التي تقدّم بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز - يوم كان ولياً للعهد - ووقف قطار التطبيع المجاني بين عدد من الدول العربية والكيان الإسرائيلي، والذي يهدف إلى عزل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي.
* دولياً: مُواصلة المُشاورات تحضيراً لعقد "مُؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط" بناءً لرؤية الرئيس عباس في العام المُقبل برعاية الأُمم المُتّحدة، القائمة على احترام قرارات الشرعية الدولية وفق حل الدولتين، والتي بدأ الأمين العام للأُمم المُتحدة أنطونيو غوتييريش مُشاوراته لعقده، مع تأييد دولٍ عدّة لذلك.
* أميركياً: لا شك في أنّ العلاقة مع الإدارة الأميركية تنطلق من تبنّي بايدن فكرة حل الدولتين ورفض الضم والتوسّع الاستيطاني.
هذه نقاط أساسية يُطالب بها الجانب الفلسطيني، ما يعني أنّ احتمالات إلغاء بايدن "صفقة القرن" مُرتفعة جداً لرفضه أحادية التفرّد الإسرائيلي بضم المُستوطنات أو اراضٍ في الضفة الغربية.
من المُتوقّع أنْ يعمل بايدن سريعاً على:
- استئناف العلاقات مع السلطة الوطنية الفلسطينية، وإعادة افتتاح مكتب "مُنظّمة التحرير الفلسطينية" في نيويورك، الذي كان قد أغلقه ترامب.
- إعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس، التي تُعنى بمُعاملات اللاجئين الفلسطينيين.
- إعادة تقديم المُساعدات المالية التي تقدّمها واشنطن إلى السلطة الفلسطينية، وأيضاً إلى مُستشفيات فلسطينية في مدينة القدس.
- دفع التمويل الأميركي إلى وكالة "الأونروا".
لكن قد لا يُقدِم بايدن على إلغاء نقل السفارة الأميركية إلى القدس، لأنّه كان من المُوقّعين على قرار نقلها في العام 1995 - وإنْ كان من المُؤيّدين لتأجيل عملية النقل.
إذا ما سار بايدن بهذه الملفات، يعني أنّه ينعى "صفقة القرن"، فهل سيُقدِم على ذلك أم إنّ ظروفاً ستحول دون ذلك؟
هذا ما ستكشف عنه الأيام المُقبلة.
لقد حمّلت إدارة ترامب "الفلسطينيين تبعات عدم تحقيق السلام".
فيما كان الحزب "الديمقراطي" سابقاً قد "حمّل "إسرائيل" مسؤولية استمرار الصراع، وأنّ سياسة مُواصلة الاستيطان تُشكّل عقبة رئيسية أمام السلام".
عبء تحقيق السلام وإنهاء الصراع، سيكون مُجدّداً على كاهل "إسرائيل".
ممّا لا شكَّ فيه أنّ مُواجهة مُحاولات تصفية القضية الفلسطينية، هي مسؤولية عربية وإسلامية ومسيحية وإنسانية، من خلال دعم صمود الفلسطينيين، الذين أيقنوا صوابية قرارهم بعدم الرهان على الخارج، بل بالاعتماد مصدر القوّة لديهم، من خلال وحدة الصف والموقف، وتتويج إنجاز المُصالحة بشكل سريع، والعمل على تجديد الشرعية إلى المُؤسسات الفلسطينية.
لقد أفشل الشعب الفلسطيني بقيادة الرئيس "أبو مازن" "صفقة القرن"، وأسقط مُهندسها، وبات ترامب يُعدُّ أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، التي تُوازي عدد سنوات نكبة فلسطين الـ72... يذهب ترامب وتبقى فلسطين.